بسم الله الرحمن الرحيم
لابد في الجبل من ثغور
لابد في الجبل من ثغور
الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله جبل من أساطين الفكر المعاصر، زلزل الصهاينة بثمان كتائب هي عدة أجزاء موسوعته/ (اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد)، وفكك العلمانية في معمليه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، وأسقط راية الحداثة الغربية في (الحداثة وما بعد الحداثة)، وبدد أوهام المادية في (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان)، وقدم الكثير مما يصعب أن يحيطه من كل جوانبه عقل مفكر واستيعاب دارس.
لابد في الجبل من ثغور، ولابد أن نقف عند قدسية المبادئ فلا تغيرها مكانة الأشخاص. منذ بضعة أيام نشرت قناة الجزيرة الفضائية آخر مقال بعث به إليها المسيري قبل وفاته، وهو تحت عنوان (حداثة داروينية أم حداثة إنسانية) وكما هي العادة في كتاباته رحمه الله حوت ما يعكس عميق فهمه للفلسفة المادية وحرارة صولته في وجه الحداثة الداروينية والعقلانية المادية، ونقده المشروع التحديثي ذو الطابع التفكيكي المعادي للإنسانية والأخلاق في نظريته، ونداءه للتحديث الإنساني الذي يصفه بالإسلامي وهو في وصفه منظومة تقوم على "التوازن مع الذات ومع الطبيعة وتحقيق العدالة الاجتماعية"، حداثة "تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود"، حداثة "تحقق توازن بين التعاقد والتراحم". وكل ما سبق مما لا أملك إلا القناعة فيه، ولكن المقال حوى إلى جانب هذه الفرائد الثمينة بعض أفكار رآها المسيري من إسلاميته وليست هي إلا معارضة لمبادئ الإسلام عند التمحيص والتدقيق. آتي عليها من وجهة نظري في النقاط التالية:
- حين نادى د.المسيري بالمنظومة الحداثية الإنسانية الإسلامية التي يسعى لها قال: "حداثة تجعل الإنسان وتحقيق إمكانياته هي المركز" ويا عجبي أليس الله سبحانه وتعالى والوصول لمرضاته هو المركز في المفهوم الإسلامي! وأليست هذه المنظومة التي سبقت العقلانية الحديثة وجرت إليها! الإنسانوية التي تأله الإنسان فتجعله في المركز ليتمكن من نزعته الفردية ويضع معاييره الخاصة بالخطأ والصواب.
- وطرح د.المسيري أيضا ما يزيد على مبدأ التسامح والتعايش الإسلامي مع غير المسلمين، فأدخل البشرية جمعاء في حلف واحد وجعل "حقوقهم السياسية والاجتماعية والدينية مصونة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)". قد لا نجادل في الحقوق الاجتماعية والدينية من منطلق (لا إكراه في الدين) فإسلامنا يحفظ الحقوق ولكن أنّا لإسلامنا أن يقبل من ناحية المبدأ أن يفتح الطريق لسيادة الجماعات الدينية والإثنية عليه وهو فيها! أليس هدفه تعبيد الأرض لله تعالى، وعمارتها بطاعته، وسياسة العباد لما فيه صلاح دنياهم وأخراهم، وهل يكون إلا بمنهج الإسلام.
- ودعا د.المسيري إلى السعي لنقاط الاتفاق مع العلمانيين القوميين العرب بحجة أنهم لا يؤمنون بالعلمانية الشاملة ومازالوا يعترفون بالقيم المطلقة وأن ليس كل شيء مباح. وخلفية ذلك الذي قربه منهم إيمان المسيري نفسه بالعلمانية الجزئية التي عرفها بفصل الدين عن السياسة والاقتصاد. وعندها انحصر خلافه معهم في مصدر استمداد هذه القيم الاجتماعية. ولكن لم نسلم للمسيري بالأصل في ادعائه توافق إيمانه بفصل السياسة والاقتصاد عن الدين مع المفهوم الإسلامي حتى نوافقه في الفرع الذي دعا إليه. وكيف لنا أن ننسى فقه السياسة الشرعية بثرائه وفقه الاقتصاد والتمويل الإسلامي بانفراده.
- وطالب المسيري أهل التخصص والخبرة من الاقتصاديين أن "يطرحوا مفهوما اقتصاديا جديدا قائما على فكرة (حد الكفاية) بحيث نتفق على الحد الأدنى المادي المطلوب للإنسان ونحاول أن نحقق هذا لكل البشر بدلا من فكرة النمو المستمر وتصاعد معدلات الاستهلاك..." ويكفيني لاعتراض الفكرة أنها الفكرة الاجتماعية الشيوعية ذاتها ببريقها النظري الزائف وفسادها العملي، وكل ما كتب في تفنيد تلك الفكرة الاجتماعية الشيوعية يعترض مفهوم حد الكفاية الأدنى الذي دعى المسيري المتخصصين إليه.
وختاما أشير إلى أن نقدي هذا لا يمثل انتقاصا لمفكر مثل د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله أو جرأة عليه، وإنما يمثل التجرد في الإيمان ببشرية المفكرين مع الاعتراف لهم بالفضل والمكانة، والتمسك بقدسية المبادئ الإسلامية مع الذوذ عنها.
والله أعلم وأحكم